العين هى مرآة البشر التى تفضح كل ما يحرصون جاهدين على إخفائه
بل إنه يمكنك ببعض الحدس و الفطنة أن تكوّن انطباعا مبدئيا عن أحد الأفراد فقط من نظرات عينيه!
راقبهما جيدا و هو يتحدث وراقبهما أكثر وهو صامت!
أعدك أن تفهم الكثير والكثير
و قديما قال الشاعر الصب تفضحه عيونه
و لأننى كنت دوما من المعتنقين لهذه النظرية تجد لدى الكثير من الذكريات مع نظرات العيون
و هذه بعض النظرات التى لم تمحى أبدا من ذاكرتى
نظرة عين (1)
كنت وقتها طبيبة امتياز أقف بمعطفى الأبيض فى استقبال إحدى المستشفيات
أؤدى عملى بروتين ممل و أنتظر انتهاء النوبتجية بفارغ الصبر لأهرع إلى ابنتى التى لم يتجاوز عمرها وقتها شهور قليلة
و أتمنى ان أحظى بسويعات قليلة من نوم حرمت إياه ليلا
و كنا نقوم كأطباء امتياز بمهام بسيطة عادة وعندما تمر علينا إحدى الحالات الصعبة نسارع باستدعاء الإخصائى المنوط للقيام بالعمل فى هذا اليوم ونلتف حوله لنتعلم الجديد
و قرب انتهاء النوبتجية كنت أشعر بقلبى يدق بشدة فقد اعتدت على دخول الحوادث العنيفة فى مثل هذا التوقيت ولا أعلم إلى الآن ما وجه الارتباط بين نهاية النوبتجية و بين هذا النوع من الحوادث!
المهم.. لم يخذلنى حدسى كثيرا!!
سمعنا صوت صراخ عنيف و عويل وجمع من الناس يحملون طفلا صغيرا غارقا فى دمه
و أم ملتاعة تصرخ: دكتووور بسرعة اعملوا معروف!
جرينا مسرعين و أدخلنا الطفل غرفة الجراحة و من النظرة المبدئية قررنا
ضرورة استدعاء الطبيب الجراح و أن الحالة خطرة الى أبعد الحدود
لا أريد أن أسهب فى وصف المنظر مراعاة لمشاعر القارئ فلم ولن ينمحى من ذاكرتى ما حييت
شعرت بالدوار يكتنف رأسى وطار النوم من عينى تماما و قلبى يعتصر على هذا الطفل الصغير وعلى أمه الملتاعة
حضر الطبيب الجراح و قرر حجز الحالة لعمل اللازم و كانت الحالة شبه ميؤوس منها
أخذت أتوسل إلى الطبيب فيما بينى وبينه أن يتم تحويلها فورا بعربة الإسعاف إلى قصر العينى ريثما يتم اسعافه حيث الإمكانات و كبار الأطباء
فأفهمنى بهدوء شديد- بدى لى وقتها لا إنسانيا بالمرة- أنه يجب عمل بعض الإسعافات هنا فى المستشفى حسبما يقتضى القانون ولا ينبغى تحويله قبلها بأى حال من الأحوال!!
و عبثا حاولت إفهامه أنه لا وقت هنا لتطبيق القوانين
إنها حياة طفل متوقفة على قراره و لنأخذ بالأسباب وفقط
فنظر لى بضيق و استمر فى كتابة التقرير!
و حاولت إحدى زميلاتى مع مدير المستشفى لإقناعه ولا فائدة
و تم حجز الطفل رغم كل التوسلات
رجعت إلى مكانى فى الاستقبال
جلست على المقعد و قدماى لا تكاد تحملانى و شعورى بالعجز لا يوصف
فقالت لى إحدى زميلاتى- محاولة منها للتهوين على- إن الحالة ميؤوس منها و التحويل لن ينقذه
فهممت بالرد عليها و لكنى انتبهت فى هذه اللحظة إلى طفلة صغيرة تنظر لزميلتى مرتاعة وقد كانت تتحدث معى بالعربية
فأشرت لها أن اقتربى
فجاءتنى وهى ترتعش و فى عينيها نظرة لن أنساها ما حييت
سألتها: هل أنت قريبة لفلان (أى الطفل المصاب)؟
قالت لى بصوت مرتعش: أنا أخته!!
و بعيون مغرورقة بالدموع وبراءة وديعة سألتنى : هو أخويا ماله ؟!!
أحسست بقبضة باردة تعتصر قلبى و أنا أرى فى عينيها نظرة كلها خوف ورجاء
و كأنها تستجدينى أن أطمئنها و أن أكذب ما تسمعه أذناها
و هى لا تفهم أو تدرك بعقلها البسيط ما حدث
تماسكت بصعوبة بالغة و أشرت لزميلتى خفية أن تتوقف فورا عن الحديث
واحتضنت الصغيرة التى نسيها الجميع فى خضم الموقف الأليم
و أجلستها بجانبى
و أحطتها بذراعى محاولة احتواء خوفها قدر استطاعتى
قلت لها :ما تخافيش يا حبيبتى ادعى ربنا وان شاء الله أخوكى يبقى كويس الدكتور عمل كل الى يقدر عليه
قلتها بصوت هو للأنين أقرب خرج رغما عنى مختلج النبرات
ولم يقنعنى شخصيا!
هدأت قليلا و فى عينيها الواسعتين الجميلتين نفس نظرة الرجاء التى خنقتنى
أفكار كثيرة تزاحمت فى مخيلتى و أنا أتأمل نظراتها الشاردة فى عالم آخر
أراها بعين الخيال وهى تذكر لعبهما معا ومشاكستها له طوال الوقت
أتخيلها تدعو الله بقلب وجل أن يرجع لها أخاها و تعده ببراءة أنها ستمنحه مصروفها كاملا وستعطيه كل قطع الحلوى و لن تضايقه بعد اليوم
فقط لينجو وسيصبح كل شئ على ما يرام!
لكم وددت أن أكذب عليها وأقل لها أن أخيها بخير وأمنيها بعودته معها سالما للمنزل فقط كى أمحو من عينيها هذه النظرة التى كادت تمزقنى تمزيقا
و لكنى تمتمت بصوت منخفض : لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم و اكتفيت بتربيتة حانية على كتفها من آن لآخر حتى جاء أحد أقاربها ليصحبها
نظرت لى بامتنان بنفس الطريقة التى تعتصر قلبك
فأجبرت نفسى على ابتسامة و وودعتها وأنا أدعو الله أن يرفق بها وبأهلها
و هذا ما كنت أملكه وقتها!
للأسف!